الحمد لله والصلاة على رسوله.. وبعــد،،،
قال تعالى:
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
هذه الآيات تحكي لنا قصة هدهد سليمان عليه السلام، وتروي لنا العجيب من خبره مع هذا النبي العظيم.
وابتداء لابد أن ندرك أن هذا الهدهد السليماني لم يكن هدهدا من عامة الهداهد وإنما هو هدهد معين خاص، وقد دل على ذلك أن الله قال:
{مالي لا أرى الهدهد} ((ولم يقل: مالي لا أرى هدهدا من عرض الهداهد، فلم يوقع قوله على الهداهد جملة، ولا على واحد منها غير مقصود إليه،ولم يذهب إلى الجنس عامة.
ولكنه قــــــــــال: {الهدهـــد} فأدخل في الاسم الألف واللام، فجعله معرفة فدل بذلك القصد على أنه ذلك الهدهد بعينه، وكذلك غراب نوح، وحمار عزير، وذئب أهبان بن أوس، فقد كان لله فيه وفيها تدبير، وليجعل ذلك آية لأنبيائه، وبرهانا لرسله))
والهدهد في العادة ((نوع من الطير... في رائحته نتن، وفوق رسه قزعة سوداء، وهو أسود البراثن، أصفر الأجفان، يقتات الحبوب والدود، ويرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن فيه ماء.
وقال الجاحظ:
زعموا أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين))، وقد ذكروا في سبب نتن رائحته أن ذلك عائد إلى أنه يبني بيته من الزِّبل.
أو إلى تلك الجيفة المنتنة في رأسه، إذ تزعم العرب أن أم الهدهد لما ماتت جعل قبرها على رأسه، فجعل الله له تلك القنزعة على رأسه ثوابا له على ماكان من بره لأمه!
وقيل: بل هو منتن من نفسه من غير عرضٍ عرَضَ له، شأنه في ذلك شأن التيوس والحيات وغيرها.
والعرب يضربون المثل بقوة إبصار الهدهد فيقولون: أبصر من هدهد، كما يقولون: أبصر من غراب وأبصر من عقاب وأبصر من فرس.
بعد هذه المعلومات الخاطفة عن جنس الهدهد بشكل عام نرجع إلى هدهدنا السليماني في هذه القصة الفريدة العجيبة، وسنقف وقفات في مدرسة هذا الهدهد.
وفي قصته مع سليمان في الجملة، وسنفاجأ حقيقة بمدى ما كان لهذا الهدهد من إيمان وذكاء وأدب.
الوقفة الأولى / الهدهد الإيجابي:
لقد شاهد الهدهد إبان طيرانه قوما يعبدون الشمس، شاهد هذا المنكر العظيم، فماذا فعل ياترى؟ إنه لم يقف موقفا سلبيا، وإنما ذهب وتحرك وتقصى، وألقى بالنبأ إلى سليمان عليه السلام، باذلا بذلك كل وسعه في تغيير المنكر، وضاربا بذلك أروع المثل في الإيجابية العملية.
لقد فعل الهدهد ذلك كله دون تكليف مسبق، أو تنفيذ لأمر صادر، وجلب للقيادة المؤمنة خبرا أدى إلى دخول أمة كاملة في الإسلام.
إن هذا لا يعني التسيب والتصرف الفردي، ولكنه يدل على الإيجابية الهادفة بضوابطها، دون الخروج على أهداف المجموع.
إن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي ما نفتقده اليوم في كثير من شباب الصحوة اليوم، فهم ـ إلا من رحم الله ـ لا يكادون يبادرون إلى عمل، أو يسارعون إلى بذل.
ولا يتحرك أحدهم إلا حين يكلف بعينه وشخصه، ومع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ، ويبطئ في الأداء!
وماهكذا كان السلف، بل كانوا إيجابيين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وإنك لتنظر إلى جيل الصحابة فترى لكل صحابي سمة معينة وإبداعا متميزا، فمنهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرك...
وحسبنا خبر ذلك الصحابي في معركة القادسية حين رأى خيل المسلمين تنفر من فيلة الفرس فصنع فيلا من طين، وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل المقدم حتى دحره.
إن لهذه الإيجابية ثمرات عديدة رائعة منها:
1ـ نمو الحضارة الإنسانية: فمعظم الاختراعات والابتكارات كانت فردية، وبدأت بإيجابية عملية من عالم أو صانع.
2ـ الإعذار إلى الله: وقد امتدح الله قوما واصلوا الوعظ والإرشاد لقوم غلف القلوب لا لشيء إلا للإعذار إلى الله {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}.
3ـ احترام النفس والثقة بها: فالإيجابي رجل يحترم نفسه ويعرف قدرها في غير غرور ولاكبر، وانظر إلى ذلك الذي قال له رجل: إريدك في حويجة فقال له: ابحث لها عن رجيل!
إن التواضع الكاذب المصطنع ليس إلا فرارا من البذل، ونكوصا عن العطاء، والمؤمن الحق باذل إيجابي لا يعوقه معرفته بعيبه عن البذل والعطاء.
ومن أراد أن يزيد إيجابيته فعليه بتقوية الإيمان، وتجنب الهوى، وحفظ الهمة، وتحصيل العلم، والإبداع في التخصص.
الوقفة الثانية / الهدهد ومهارات الخطاب:
لقد كان في خطاب الهدهد لسليمان العديد من المهارات والإبداعات التي يحسن بالشاب المسلم أن يتعلمها وهو يخاطب الآخرين.
1ـ فنلحظ أولا إيجازه للخطاب مع سليمان، فقد جمع في أسطر معدودة قصته الطويلة مع هذه الملكة التي تعبد وقومها الشمس.
إن الهدهد يدرك أنه يخاطب ملكا، والملوك أوقاتهم مليئة بالمشاغل وليس لديهم وقت لسماع التفاصيل والجزئيات، ومن هنا ركز الهدهد على أصول المسائل فأوجز وأبلغ.
وعلى الشاب المسلم أن يدرك هذا، فإذا تخاطب مع مسؤول كبير، أو شيخ فاضل، أو عالم جليل، أو أخ نبيل، إذا تخاطب مع أحد هؤلاء المليئة أوقاتهم بالعمل فعليه ألا يكون ثرثارا مهذارا، يجعل من الحبة قبة، ويحيل السؤال الصغير إلى قصة طويلة عريضة.
إن في هذا من إهدار وقت الفضلاء ما لا يطاق ولا يحتمل، وإنك حين تفعل هذا أيها الأخ فستكون ثقيلا بغيضا، لأن المقابل يشعر أنك تضيع وقته.
إذا أيها الأخ راع ظرف المخاطب ومنزلته ومكانته.
2ـ استفتح الهدهد خطابه لسليمان بشيء عجيب، إذ قال له: {أحطت بما لم تحط به}!
إن الهدهد ((يعرف حزم الملك وشدته، ولذلك بدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له... وأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له: {أحطت بما لم تحط به}؟!)) [في ظلال القرآن 5/2638]
وهكذا عليك أيها الأخ أن تكون في خطابك ذكيا، وأن تفلح في جذب استماع المخاطب، حتى تتمكن من إيصال رسالتك.
ولئن كان الهدهد بهذا الأسلوب يحاول أن ينجو من عقوبة، فإنا نستخدمه ونطوره لنشر الخير والدعوة، ذلك أن الكثيرين من العصاة حولنا لا يأنسون بكلامنا.
وينفرون من هذه المواعظ المعتادة التي تلقى، وبمجرد أن تبدأهم بالحديث بها أو عنها فإنهم يعرضون، ولذلك فأنت بحاجة إلى مدخل ذكي تشد به أسماعهم وتأسر ألبابهم حتى تتسلل كلمات الحق إلى قلوبهم.
أذكر أن أحد الخيرين رأى نفرا من الشباب الضائعين في مطعم، فجاءهم وقال: هنيئا لكم أيها الشباب! إن هذه الأرض تشهد لكم عند الله!
قالوا: كيف؟ قال: ألستم تصلون؟ قالوا: بلى، قال: فالأرض تشهد لكل من صلى عليها! لقد كان هذا مدخلا ذكيا جذب به أسماعهم وأزال الحواجز بينه وبينهم.
3ـ حين أخبر الهدهد سليمان عليه السلام بخبر بلقس وقومها وكفرهم بالله، لم يقل لسليمان: اذهب فأمرهم بالتوحيد والسجود لله، وإنما قال: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء...}.
فالهدهد هنا ألمح بالحل، ولم يأمر به، اقترح ولم يفرض، عرض ولم يصرح بالتكليف.
وبمثل هذا الأسلوب يمكن أن نكسب الناس.
إن طبيعة النفس الإنسانية أنها تنفر من الأوامر الصارمة المتعددة الجازمة، ولذلك كان لزاما علينا ونحن نوجه الناس ونعظهم أن نجتنب صيغة الأمر المباشر، ونحاول اللجوء لأسلوب العرض والاقتراح...
وكم بين أن تقول لشخص: ياهذا قم الليل ألا تعلم فضل قيامه؟ إلى متى النوم والغفلة..
وبين أن تقول له: يا أخي، لقد وفق الله المصطفين من عباده فصفوا أقدامهم بالأسحار مصلين، فأصبحوا ووجوهم مشرقة منيرة، ياليتنا نكون منهم.
فكن يا أخي قليل الأوامر، ولاسيما إذا لم تكن مسؤولا.
4ـ حين أخبر الهدهد انبغاء السجود لله قال: {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم}، فاختار وصف الله بالعظمة تذكيرا لسليمان بأن هناك من هو أعظم منه، محاولا بهذا أن يخفف من غضب سليمان عليه السلام عليه.
5ـ قال ابن القيم في قوله تعالى: {وجئتك من سبأ بنبأ يقين}: ((والنبأ هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته.
ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ، استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر، وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ومعرفته.
وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج، ثم الكشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التوكيد ,,,)) [شفاء العليل 71 نقلا عن الإيجابية في حياة الداعية 24]
الوقفة الثالثة / الهدهد وإنكار المنكر:
وهذا شيء بين، فقد ساءه ما رأى من عبادة بلقيس وقومها للشمس، فتمعر وجهه لذلك وحمي أنفه، ومازال بهم وبسليمان حتى دخلوا جميعا في الإسلام وزال هذا المنكر.
فهل نجد في واقعنا صدى لهذه الخصلة؟
إن إنكار المنكر ـ وللأسف ـ صار لا يشكل جزءا من همنا ولا من تربيتنا مع أننا جميعا نحفظ حديث السفينة وندرك خطر المنكرات حين تنتشر.
وحسبنا زاجرا ذلك الأثر الذي جاء فيه أن الله أمر جبريل أن يهلك أهل قرية لفسقهم، فقال: يارب إن فيهم عبدك فلانا ما عصاك قط! قال: فبه فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه من أجلي!
الوقفة الرابعة / الهدهد الدقيق:
أنظر إلى قول الهدهد: {أحطت بما لم تحط به}، قال الشوكاني: ((والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته)) ويقول الطاهر بن عاشور: ((والإحاطة: الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط، وهي هنا مستعارة لاستعياب العلم بالمعلومات))
فالهدهد لم يقنع بأخذ طرف من الأخبار، وإنما مازال ببلقيس وقومها حتى (أحاط) بأخبارهم، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى.
والواجب علينا دائما ألا نبادر إلى الحكم على الشيء حتى نحيط به، ونلم بجوانبه.
إن من مشاكل شباب الصحوة اليوم ضيق الأفق وقصر النظر، والنظر إلى القضية أو المشكلة من زاوية واحدة دون إحاطة كإحاطة الهدهد مما يوقع في المشاكل ويؤدي إلى التعصب للرأي ’
وأبرز آفات هذا الضيق في الأفق معاداة المخالف في الفروع، ذلك أن هذا المعادي لم يحط بالمسألة من سائر جهاتها فيعرف أنها قابلة للأخذ والرد وإنما نظر من زاوية واحدة ظنها الصواب المحض، وصدق فيه قول من قال: يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيحسب أن عنده العلم كله!!
ومن آفاته الخطيرة شيوع ظاهرة التأثيم والتفسيق والتبديع، إذ المقترف لهذه الأمور لم يحط بما أخذه على خصمه، ولم يعرف جلية الأمر، ولا نظر الدوافع والأسباب، ولا جمع كلام المتهم كله ليوازن بعضه ببعض... وإنما هو في الغالب أخذ ذروا فحكم، أو نظر إل جزء فجزم.
فما أحوجنا إذا إلى هذا السلوك الهدهدي... الإحاطة أولا ثم الحكم والتصرف.
الوقفة الخامسة / الهدهد وسلطان العلم:
قال ابن القيم:
((إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا، أو يذبحه إنما نجا منه بالعلم، وأقدم عليه في خطابه له بقوله: {أحطت بما لم تحط به} خبرا، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم)).
وهكذا ارتفع الهدهد بالعلم، والعلم دائما يرفع صاحبه، {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.
ولهذا قال الربيع:
والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له! وقال وهب بن منبه: يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيئا ن والعز وإن كان مهينا، والقرب وإن كان قصيا، والغنى وإن كان فقيرا، والمهابة وإن كان وضيعا...))
وعن الفضيل قال: عالم عامل بعلمه يدعى كبيرا في ملكوت السموات))!
ولعل مما يشهد لنا في هذا المقام خبر عرش بلقيس، فقد أخبر الله أن عفريتا من الجن (والعفريت هو الشديد الذي لا يصاب ولا ينال) وعد سليمان أن يأتيه بالعرش قبل أن يقوم من مقامه، وكان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس.
بينما وعده الذي عنده علم من الكتاب أن يأتيه به قبل أن يرتد إليه طرفه!! قال الطاهر: ((وهذه المناظرة بين العفريت من الجن ولاذي عنه علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة))
فليس المقياس إذا قوة ولا نسب ولا مال... وإنما هو علم يقود للتقوى.
وإذا كان الأمر على هذا النحو فأين نحن من العلم؟
ما حصيلتنا منه؟ ما مدى حرصنا عليه؟ إلى أي حد نهتم به؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب.
الوقفة السادسة / الهدهد واحترام القيادة:
قال النسفي رحمه الله حول قوله تعالى: {فمكث غير بعيد}: ((ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان))
إذا... فقد كان الهدهد يهاب سليمان ويحترمه ويقدره، ومع أنه كان في مهمة دعوية عظيمة الشأن إلا أنه مع ذلك حاول إنجازها بأسرع وقت لأنه تذكر أنه خرج في الأصل بغير استئذان!
ويتجلى هذا الاحترام والتقدير أيضا في عرض الهدهد القضية لسليمان دون أن يدلي فيها برأي آمر، وإنما عرض ولمح كما سبق بيانه.
الوقفة السابعة / سليمان عليه السلام وعوامل النجاح القيادي:
لقد كان سليمان عليه السلام نبيا مسددا، وملكا ملهما موفقا، والناظر في تصرفاته في قصته مع الهدهد يلمح كثيرا من عناصر التفوق القيادي، والتي منها:
1ـ تفقد الأتباع: فمع أن سليمان قد حشر له جنود الإنس والجن والطير، حتى ذكر بعض أهل التفسير أن معسكره كان مئة فرسخ في مئة! مع هذا كله لم يفته غياب هذا الهدهد، وتنبه له... ولم يكن هذا التنبه عارضا.
وإنما بعد تفقد وسؤال مما يدل علىأنه كان يحرص علىرعيته ويسأل عنهم، قال الطاهر: ((صيغة التفعُّل[يعني في تفقَّد] تدل على التكلف والتكلف الطلب))، فهو كان ـ عليه السلام ـ يتكلف البحث والسؤال.
ولا يمكن أن يكون القائد ناجحا إلا بمثل هذا التفقد، وانظر مثلا إلى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثابت بن قيس بن شماس وكيف أنه افتقده بعد نزول سورة الحجرات فسأله عنه حتى عرف نبأه ثم بشره بالجنة، وكثيرا ما تجد في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه افتقد فلانا، أو سأل عن فلان.
ولا يمكن وصف الأثر الذي يحصل في قلب الفرد حين يعلم أو يشعر أن أميره افتقده وسأل عنه حتى وإن كان في السؤال شدة ومعاتبة، على حد قول الشاعر:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أن خطرت ببالكِ
ومشكلة قادتنا اليوم أنهم ـ في أحيان كثيرة ـ لا يدرون شيئا عمن تحتهم، ولا يكاد الواحد منا يهتم بأفراد رهطه أو عشيرته أو حلقته في التحفيظ مثلا، وبالتالي يفقد كثيرا من رصيد المحبة في قلوب أتباعه، وبعد هذا عليه ألا يلوم إلا نفسه إذا لم يجد استجابة وطاعة.
2ـ الحزم والصرامة: ولابد منهما للقائد، وانظر كيف أن سليمان عليه السلام لما تبين له غياب الهدهد دون إذن، ولما شاع خبر غيابه أمام الجميع.
قال: {لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه}، وقد اختلف المفسرون في شأن العذاب الشديد، وملخص أقوالهم أنه إما بنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو بالتفريق بينه وبين إلفه، أو بإلزامه خدمة أقرانه، أو بالحبس مع أضداده
لقد هدد سليمان الهدهد بهذه العقوبات (استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه، أو إعداما له لئلا يلقن بالفساد غيره)
ولا ريب أن الحزم والصرامة في مواجهة الخطأ كفيلة بوأده في مهده، أما حين يخطئ الإنسان ويشيع خطؤه في الناس ثم يتراخى القائد في الأخذ على يده فإن العاقبة حينئذ تكون سيئة، إذ يتجرأ غيره على الخطأ، وتنكسر حيئذ هيبة القيادة.
وينبغي علينا ألا نأخذ هذا الكلام بحرفيته في تعاملاتنا فنحن إخوة قبل أن نكون رؤساء ومرؤسين، وليس بالضرورة أن أعاقب أخي المخالف بنتف ريشه أو ذبحه! وإنما قد تكفي أخي الحر كلمة عتاب، أو نظرة لوم.
المهم أن القائد هو الذي يقدر العقوبة التي يستحقها المخالف، والمهم أن يظل العمل بمبدأ الثواب والعقاب.
ولعل من المفيد هنا أن نذكر مسألة حول تعذيب الحيوان...
قال الطاهر: ((وأما عقوبة الحيوان فتكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله، قال القرافي في تنقيح الفصول: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهر المؤذي هل يجوز؟ فكتب وأنا حاضر: إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل.اهـ.
قال القرافي: فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله...)).
وقد حل لسليمان عليه السلام تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة.
3ـ التثبت والتبين:
ونرى ذلك واضحا في قوله بعد سماعه خبر الهدهد: {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين}.
كما تجلى ذلك في استثنائه عند التهديد بالعقوبة حيث قال: {أو ليأتيني بسلطان مبين}
إن العجلة في الحكم وتصديق كل ما يقال والجزم بالنتائج دون سماع الرأي الآخر إن هذه كله من تصرف الغوغاء، ولا يمكن لقائد أن ينجح مالم يتخذ من التأني والتروي والتبين والتثبت شعارا.
4ـ معرفة مواطن الضعف عند الخصم:
فحين هدد سليمان عليه السلام بلقيس لم يهددها بالموت ولا بالهلاك، بل هددهابالذلة ((ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون))، ذلك أنه شعر من قولها فيما حكاه الله عنها:
((إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)) شعر من ذلك أن أخوف ما تخاف منه أن تصير ذليلة بعد العز، فمن ثمّ خوفها بما تخاف منه، واستغل نقطة ضعفها كما يقول المعاصرون.
الوقفة الثامنة / متابعة صدى المواقف والأقوال:
إن الكثيرين من الدعاة وناشري الخير يلقون الكلمات الطيبة، ويقفون المواقف المؤثــرة، ثم ينصرفون!
إنهم يعملون بطريقة: قل كلمتك وامش.
ومثل هذه الطريقة لا تبني رجالا بحال، وإنما هي تؤثر تأثيرا وقتيا لا يلبث أن يزول ويمحي بمرور الأيام.
وانظر إلى هذا الدرس السليماني: {اذهب بكتابي هذه فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون}... تأمل قوله: {فانظر ماذا يرجعون}! نعم ليست القضية أن يلقي الكتاب ويوصل الرسالة فقط...
وإنما هناك متابعة لردة الفعل، هل استجابوا؟ هل لانوا؟ هل عاندوا؟ وبناء على ردة الفعل يكون التصرف، وبهذا يكتمل الأمر، ويوصل إلى التصرف السليم.
إن كثيرا من المحاولات التربوية تفشل لأن المربي يهتم بإلقاء كل ما لديه من معلومات وفوائد واحدة تلو الأخرى دون أن يتمهل لينظر أثر ما قال في تلميذه، وهل وصلت الرسالة أم لا؟
وهل تشرب المعنى المراد أم زل عن قلبه كما يزل الماء عن الصفاة؟ لابد من هذا وإلا فعلى العملية التربوية العفاء.
وحين لا يلتفت المربي إلى هذا يفاجأ بمواقف مؤلمة من هذا التلميذ، وذلك عندما تبدر منه تصرفات وأخلاقيات كان يظن أنه قد تجاوزها بمراحل.
الوقفة التاسعة / لا تغتر بما عندك:
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري[رقم 74] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟
قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر. فسأل موسى السبل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه. وكان يتبع أثر الحوت في البحر.
فقال لموسى فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانية إلا الشيطان أ أذكره. قال: ذلك ماكنا نبغي.فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا خضِرا، فكان من شأنهما الذي قصه الله في كتابه))...
قال ابن حجر: ((وفي الحديث... ولزوم التواضع في كل حال، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه، وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع))
فعلى الإنسان ألا يحتقر غيره، فرب صغير حاز مالم يحزه الكبير، وهذا الهدهد وهو طير صغير أحاط بما لم يحط به سليمان وهو نبي ملك!
وقد ((ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام... ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء))
وهكذا ينبغي أن تدرك أنه قد يكون عند من هو أصغر منك سنا، وأقل ذكرا ماليس عندك، وعليه فاحرص على الاستفادة من الجميع، والقط المعلومة والفائدة من حيث خرجت، وعلى المسلم ((ألا يتكبر أن يسمع غيره، فلاد يدري الكلمة التي ينتفع منها.
وما من خطيب ولا واعظ إلا وتستفيد منه فكرة أو خبرا أو تذكيرا بعلم قديم قد نسي، أو ربطا بحادثة واقعية، أو على الأقل لا يخلو الواعظ من عرض جديد لمعلومة معروفة، أو نبرة تبلغ إلى أعماق القلب...))
وفي المقابل على الفرد أن يدرك أنه قد يكون عنده ما ليس عند أساتذه، وربما خطر بباله ما لم يخطر ببالهم، أو أحسن ما لم يحسنوه، فعليه حينئذ أن يبادر بالعمل فيما يحسن، مع إخلاص نية وقصد.
ومع حفظ لحقوق السابقين من الأساتذة والمربين
المصدر: موقع نواحي